الخميس، 16 سبتمبر 2010

تعريف الاخلاق


بسم الله الرحمن الرحيم
«المقدمة»
1ـ تعريف الأخلاق[1]
الخُلق هو الدين والطبع والسجية، وهو عبارة عن الصورة الباطنيّة للإنسان، كما أنَّ «الخَلق» بالفتح عبارة عن الصورة الظاهرية للإنسان، فعند ما يقال: «فلان حسن الخَلق والخُلق» المراد أنّه حسن الظاهر والباطن.
وهذه الصورة الباطنية يظهر جمالها أو قبحها من خلال صدور الأفعال عنها، فإن كانت الأفعال الصادرة عن تلك الهيئة أفعالا محمودة وحسنة عقلاً وممدوحة وراجحة شرعاً سمّيت تلك الهيئة «خلقاً حسناً» وإن كان الصادر عنها أفعالاً ذميمة وقبيحة شرعاً أو عقلاً سمّيت «خلقاً سيّئاً».

2ـ تعريف علم الأخلاق
علم الأخلاق هو العلم الباحث عن محاسن الأخلاق ومساوئها والحثّ على التحلّي بالأخلاق الحسنة والتخلّي عن الأخلاق السيّئة [2].

3ـ شرف علم الأخلاق و غايته 
لمّا عرفنا أنّ علمَ الأخلاق يبحث عن محاسن الأخلاق ومساوئها ويحثّ على التحلي بالأخلاق بالحسنة، والتخلي عن السيّئة وأنّ باطن الإنسان، والذي أهم من ظاهره ومظهره يتوقّف تحسينه وتهذيبه على تهذيب الأخلاق التي هي الأفعال المعبّرة عن الباطن  وتعرب عنه، وبالتالي حياة الإنسان الحقيقيّة وصورته النهائيّة التي أراد الله سبحانه تعالى له أن يكون عليها، عرفنا شرف علم الأخلاق وغايته وأنّه أشرف العلوم وأنفعها لأنّ شرف كلّ علم بشرف موضوعه أو غايته فشرف علم الطب على علم الدباغة بقدر شرف بدن الإنسان وإصلاحه على جلود البهائم، وبما أنّ موضوع علم النفس الناطقة عن حقيقة الإنسان ولبّه وهو أشرف الكائنات وغايته كمال الإنسان، فهو من أشرف العلوم وغايته من أشرف الغايات .[3]
 
4ـ أهميّة الأخلاق
إِنّ حكمة الخالق المدبّر توجب وجود هدف سام  ومنظور راق للخلق بصورة عامة وللإنسان بصورة خاصّة لأنّه تعالى  مُنزّه عن اللعب واللهو والعبث « وَ ما خَلَقْنا السَّمَاءَ وَالأرضَ ومابَينَهُمَا لاعِبينَ» الأنبياء/ 16 .
فالغاية والهدف من إهباط الإنسان في هذه الأرض هو العبادة والقيام بوظائف العبادة، وهذه العبودية والخضوع له تعالى تشمل جميع الموجودات بدون إستثناء « وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإِنسَ إلاّ ليَعبُدُون» الذاريات/ 56 .
إلاّ أنّ هناكَ فرقا كبيرا بين عبودية الإنسان وعبودية غيره، وذلك لأنَّه يُراد من الإنسان العبودية الإختيارية الواعية الصادرة عن حبٍّ وشوق له تعالى، عبودية عن طريق الصراع ومجاهدة هوى النفس ومنازلة الشيطان وإيثار هَوى الله تعالى على هوى النفس وشهواتها وإجتياز الابتلاء الإلهي والإنتصار على الفتنة «أحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوْا أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لا يُفتَنُون» العنكبوت/ 2 .
وإذا ما حقّق الإنسان هذه العبودية المطلقة استحقّ أن يكون خليفة لله تعالى بما للخلافة من معنى .
وقد رسم الله تبارك وتعالى للإنسان من خلال إرسال الرسل والكتب السماوية نظاماً عقائدياً وعبادياً واجتماعياً واقتصادياً وأخلاقياً متكاملاً متوافقاً ومنسجماً مع الهدف من خلقه والغاية التي هو منتهٍ إليها . ويضمن تطبيقهُ في الحياة الكمال والسعادة للإنسان .
فالخالق الحكيم لم يدعْ مخلوقه الضعيف يتيه في عالم مجهول مظلم لا يكاد يخرج من هوّة حتى يتردّى في هوّةٍ اكثر ظلاماً منها بل هداه النجدين وأو ضح له السبل وبيّن له الرشد من الغيّ عن طريق العقل والفطرة تارة، وعن طريق الوحي والرسل تارة أُخرى .
وعلى ضوء ما تقدّم يعرف دورالأخلاق وموقعها في الحياة الإنسانية في التصوّر الإسلامي فهي غير منفصلة عن واقع الإنسان مبداً وغاية ً وهدفاً، وكما أنّ الحقيقة الإنسانية واحدة، والهدف المرسوم لهذا الخلق ثابت وسام، فالأخلاق أيضاً ليست في واقعها إلاّ حقيقة واحدة ثابتة سامية بقدر ملائمتها للهدف، ووضيعة بقدر منا قضتها له [4] .
فالأخلاق الفاضلة هي التي تحقّق في الإنسان معاني الإنسانية الرفيعة وتحيطه بهالة وضّاءة من الجمال والكمال وشرف النفس والضمير وسموّ العزّة والكرامة، كما تمسخه الأخلاق الذميمة وتحطّه إلى  مستوى الهمج والوحوش .
وليس أثر الأخلاق مقصوراً على الافراد فحسب بل يسري إلى  الاُمم والشعوب حيث تعكس الأخلاق حياتها وخصائصها ومبلغ رقيّها أو تخلّفها في مضمار الاُمم، وقد زخر التاريخ بأحداث وعبر دلّت على أنّ فساد الأخلاق وتفسّخها كان معولاً هَدّاماً في تقويض صرح الحضارات وانهيار كثير من الدول والممالك .

5ـ الأخلاق الإسلامية
من الواضح الذي لاغبار عليه أنّ كلّ الشرائع السماوية كان الهدف من ورائها هو تكامل الإنسان ورقيِّه على جميع المستويات الماديّة والمعنويّة والروحية والجسدية كي يصل إلى  مستوى الخلافة لله في أرضه ويعمرها بالفضائل والقيم والمعاني النبيلة السامية من خلال قيامه بوظائف الخلافة وأدائه لمستلزمات العبودية.
وبما أَنَّ الشريعة الإسلامية تمتاز عن غيرها من الشرائع الاُخرى بشمولها وعمومها وخاتميتها فقد حوت كلّ ماجاءت به الشرائع الاُخرى السابقة لها من تعاليم دينية وقيم أخلاقية وأحكام شرعيّة وزادت عليها الكثير بعد أن نسخت وغيّرت ما كان منها يصلح لظرف معيّن وأجل محدود .
فالشريعة الإسلامية نظرية متكاملة الأبعاد ترسم للإنسان منهجاً شاملاً لجميع تفاصيل حياته وعلاقاته بما حوله من الموجودات وارتباطه بخالقه وبذاته وبابناء نوعه.
من هنا يتّضح لنا أنّ الأخلاق الإسلامية ونعني بها جميع محامد الأخلاق لاخصوص حسن المعاشرة مع الناس ـ هي مجموعة الأقوال والأفعال التي يجب أن تقوم على أُصول وقواعد وفضائل وآداب مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بالعقيدة والشريعة الإسلامية ـ من خلال منابعها ومصادرها الأساسيّة، والتي هي القرآن الكريم والسنّة الشريفة للرسول الأكرم والأئمة الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين.
فالأخلاق الإسلامية ليست جزءاً من الدين بل هي جوهره وروحه، ولعلّ هذا المعنى هو المقصود بالحديث المعروف المروي عن الرسول الأكرم (ص): «إنّما بعثت لاُتَمِّم مكارم الأخلاق» والآخر المروي عنه (ص) أيضاً: «بعثت بمكارم الأخلاق ومحاسنها» فانّ الشريعة بكلّ تفاصيلها ما الغرض منها إلاّ سموّ الإنسان ورقيّه ووصوله إلى درجة العبودية التي تحقق له السعادة في الدار الدنيا ومن ثَمّ الأجر والثواب في الدار الاُخرى .

6ـ منهجنا في كتابة الأخلاق
الملاحظ أنّ الأخلاق بمعناها العام - أي جميع محامد الأخلاق ومحاسنهاـ منها ما يكون مجالها تعامل الإنسان مع ذاته، وتنعكس آثارها سلباً أو إيجاباً على شخصيته بالدرجة الأُولى وبشكل مباشر وإن إنعكست آثارها على المجتمع بالدرجة الثانية وبشكل غير مباشر فانّ الصبر والجزع والتكبّر والتواضع وما إلى  ذلك من الصفات التي ترتبط بنفس الإنسان وذاته وشخصيته تنعكس آثارها على شخصيته ويكون هو الذي يعاني منها إن كانت ذميمة كالبخل ويُسعد بها إن كانت نبيلة كالكرم مثلاً .
ومن الأخلاق مايكون مجالها ومسرحها المجتمع وتنعكس آثارها سلباً أو إيجاباً على العلاقات والروابط الإجتماعيّة فإذا كانت أخلاقاً فاضلةًـ كحسن الخلق بمعنى مداراة الناس ومعاشرتهم بالمعروف والصدق وحسن الظنّ وما إلى ذلك ـ أدّت إلى تماسك المجتمع ووحدته وبثـَّت فيه روح الثقة والطمأنينة والتآخي والتآزر والتكاتف وإن كانت ذميمة كسوء الخلق والغيبة والنميمة وما إلى ذلك أدّت إلى تفكّك المجتمع وجعلته مجتمعاً خاوياً ضعيفاً مُتباغضاً .
وهناك من الأخلاق والآداب ما ينظّم إرتباط الإنسان بخالقه وكيفية العبودية له فانّ حالة الإخلاص في العبادة والدعاء والتوكّل وغير ذلك أُمورٌ ترتبط بتعامل الإنسان مع الخالق - أي العبد مع مولاه .
من هنا إرتـَأَينا أن نقسّم الأخلاق إلى الأخلاق الإجتماعيّة والأخلاق الفرديّة والأخلاق العباديّة، وَمعيارنا في ذلك ما تقدَّمَ أعلاه .
وإليك الأقسام الثلاثة ومصاديقها بعون الله تعالى .
 
الأخلاق الاجتماعيّة
 
 1ـ حسن الخلق
1ـ تعريفه: حسن الخلق هو: حالة نفسية تبعث على حسن معاشرة الناس ومجاملتهم وطيب القول ولطف المداراة كما عرّفه الأَمام الصادق (ع) حينما سئل عن حدّه فقال: «تلين جانبك وتطيب كلامك وتلقى أخاك ببشر حسن» .
ومن الإحساسات الطبيعية للإنسان والآمال التي يطمح إليها ويسعى إلى كسبها وتحقيقها أن يكون ذا شخصية جذابة ومكانة مرموقة محبباً لدى الناس عزيزاً عليهم .
وهذه الامنية الغالية والهدف السامي لايناله إلاّ ذووالخصائص والفضائل التي تؤهلهم كفاءاتهم لبلوغها كالعلم والشجاعة والكرم ونحوها من الخلال الكريمة.
بيد أنّ جميع تلك القيم والفضائل لا تكون مدعاة للإعجاب والإكبار وسموّ المنزلة ورفعة الشأن إلاّ إذا إقترنت بحسن الخلق وازدانت بجماله الزاهر ونوره الوضّاء .
لذلك كان حسن الخلق ملاك الفضائل ونظام عقدها ومحور فلكها.
وكفى حسن الخلق فضلاً أنّه يستميل النفوس ويورث المحبّة ويزيد في المودّة ويهدي إلى  الفعل الحسن، وهذه المعاني هي التي تربط المجتمع بعضه ببعض وتجعله مجتمعاً متماسكاً تسوده المحبّة والمودّة وينعم بالطمأنينة والأمان .
وكلّنا يعلم بانّه كان من تقدّم الإسلام حسن أخلاق الرسول الأكرم (ص) فقد كان من أهمّ البواعث على تقبّل الإسلام والأَلتفاف حول الرسول الأكرم هو سماحة هذا الدين وأخلاق الرسول الأمين (ص) وقد نَسب الله تبارك وتعالى توسّع الإِسلام واجتماع الناس حول الرسول وقبولهم لدعوته المباركة إلى  حسن خلقه (ص) ولين جانبه ورقـّة قلبه ورحابة صدره حيث يقول تعالى : «وَلَو كُنتَ فظّاً غَلِيَظ القَلْْبِ لانفَضّوا مِنْ حَولِكَ» آل عمران/ 159 .

2 ـ حسن الخلق في نصوص الشريعة
حثـّت الشريعة الإسلامية المقدّسة على التحلّي بالخلق الحسن وبيان فضله وما يترتب عليه في الدنيا من عزّ ورفعة وسموّ، وفي الآخرة من أجر وثواب .
وإليك بعض الآيات والروايات على سبيل المثال لا الحصر فإنّ النصوص في ذلك أكثر من أنْ تُحصى .

1 ـ الآيات الكريمة:
قال الله تعالى مخاطباً نبيّه الأكرم (ص) : «وإنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم» القلم/ 4 . فانّه يكفي بحسن الخلق شرفا وفضلاً أنّ الله قد مدح نبيّه الخاتم (ص) بما لم يمدحه بمثله.
وقال تعالى : « ولَو كُنْتَ فظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَولِكَ» فقد إعتبر تبارك وتعالى سرّ تقبّل الإسلام الأخلاق الحسنة للرسول الأكرم (ص).

2 ـ الروايات:
قال رسولّ الله (ص) : «إنّما بُعِثتُ لاُتمّم مكارمَ الأخلاق».
وقال (ص) : «أفاضلكم أحسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون وتوطأ رحالهم».
وقال (ص) : «لا يدخل الجنّة أحد إلاّ بحسن الخلق».
وقال علي (ع) : «لو كنّا لا نرجو جنّة ولا نخشى ناراً ولا عقاباً لكان ينبغي لنا أن نطالب بمكارم الأخلاق فانّها ممّا تدل على سبل النجاح» .
وقال (ع) أيضا : «حُسن الأخلاق يدرُّ الأرزاق ويؤنس الرفاق» ومعنى هذا كما هو واضح أنّ حسن الخلق يوجب توسعة في المعيشة وزيادة في الرزق والأُلفة .
وقال الأَمام الباقر (ع) : «إنّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً» .
وقال الأَمام الصادق (ع) : « ما يقدم المؤمن على الله تعالى بعمل بعد الفرائض أحب إلى الله تعالى من أن يسع الناس بخلقه» .
وقال الأَمام الصادق (ع) أيضا : «إنّ الله تعالى ليعطي العبد من الثواب على حسن الخلق كما يعطي المجاهد في سبيل الله» .
وقال (ع) : «البر وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار» .
وقال (ع) : «إن شئت أن تكرم فَلِنْ، وإن شئت أن تُهان فاخشن» .

3 ـ سيرة الرسول و أهل بيته عليهم الصلاة و السلام:
لقد كان الرسول الكريم وأهل بيته المثل الأعلى في حسن الخلق وغيره من الفضائل والخصال الكريمة واستطاعوا بأخلاقهم المثالية أن يملكوا القلوب والعقول فكانوا قدوةً في علوّ أخلاقهم وسموّ آدابهم وقد حمل لنا التاريخ صوراً رائعةً ودروساً خالدة من سيرتهم المثاليّة وأخلاقهم الفذّة .
وإليك بعض الأمثلة .
قال أمير المؤمنين عليّ (ع) وهو يصوّر أخلاق رسول الله (ص): «كان أجود الناس كفـَّاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجةً، وأو فاهم ذمّةً، وألينهم عريكةً، وأكرمهم عشيرةً من رآه بديهة ً هابه، ومن خالطه فعرفه أحبّه، لم أرَ مثله قبله ولا بعده» .
ومن كتاب النبوّة عن الأَمام علي (ع) قال : «ما صافح رسول الله أحداً قط فنزع (ص) يده من يده حتّى يكون هو الذي ينزع يده، وما فاوضه أحد قط في حاجة أو حديث فانصرف حتّى يكون الرجل هو الذي ينصرف، وما نازعه أحد الحديث فيسكت حتّى يكون هو الذي يسكت، وماروي مقدِّماً رجله بين يدي جليس له قط »[5].
وكان خادمه أنس بن مالك يتذكّر أخلاقه العظيمة دائماً ويقول : «خدمت النبي (ص) عشرين سنة فما قال لي أُفٍّ ولا لما صنعت، ولا ألا صنعت» .


قصّتان طريفتان عن خلق الرسول(ص)

الاُولى : عن الأَمام موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين (ع): «إنّ يهودياً كان له على رسول الله (ص) دنانير فتقاضاها فقال له: يا يهودي ما عندي ما اعطيك، فقال: فانّي لا أُفارقك يا محمّد حتّى تقضيني، فقال: إذن أجلس معك . فجلس معه حتّى صلّى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول الله (ص) يتهدّدونه ويتوعّدَونه  فنظر رسول الله (ص) إليهم فقال: ما الذي تصنعون به ؟ فقالوا: يا رسول الله يهودي يحبسك؟! فقال (ص): لم يبعثني ربّي عزوجلّ بأن أظلم معاهداً ولا غيره . فلمّا علا النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل الله، أما والله ما فعلت بك الذي فعلت إلاّ لأنظر إلى نعتك في التوراة، فإنّي قرأت نعتك في التوراة: محمّد بن عبدالله مولده بمكّة، ومهاجره بطيبة وليس بفظّ ولا غليظ ولا صخّاب ولا متزين بالفحش ولا قول الخناء، وأنا أشهد أن لا اله إلاّ الله وأنّك رسول الله وهذا مالي فاحكم فيه بما أنزل الله ، وكان اليهودي كثير المال...» .
الثانية: ما ورد عن الأَمام الصادق (ع) قال: «جاءَ رجل إلى  رسول الله (ص) وقد بلي ثوبه ـ يعني ثوب رسول الله (ص) ـ فحمل اليه اثني عشر درهماً، فقال (ص):  يا علي خذ هذه الدراهم فاشتر لي ثوباً ألبسه . قال علي (ع): فجئت إلى  السوق فاشتريت له قميصاً باثني عشر درهماً وجئت به إلى رسول الله (ص) فنظر اليه فقال: يا علي غير هذا أحب إليّ أترى صاحبه يقيلنا؟ فقلت: لا أدري، فقال: إنظر . فجئت إلى صاحبه فقلت : إنّ رسول الله (ص) قد كره هذا، يريد ثوباً دونه، فأقلنا فيه، فردّ علىّ الدراهم، وجئت بها إلى رسول الله (ص) فمشى معي إلى السوق ليبتاع قميصاً، فنظر إلى جارية قاعدة على الطريق تبكي، فقال لها رسول الله (ص): ما شأنك؟ قالت: يا رسول الله أنّ أهلي أعطوني أربعة دراهم لأشتري لهم بها حاجة فضاعت فلا أجسر أن أرجع اليهم، فاعطاها رسول الله (ص) أربعة دراهم، وقال: إرجعي إلى أهلك، ومضى رسول الله (ص) إلى السوق، فاشترى قميصاً بأربعة دراهم ولبسه وحمد الله . وخرج فرأى رجلاً عرياناً يقول: مَنْ كساني كساه الله من ثياب الجنّة، فخلع رسول الله (ص) قميصه الذي اشتراه وكساه السائل ثمّ رجع إلى السوق، فاشترى بالأربعة التي بقت قميصاً آخر، فلبسه وحمد الله ورجع إلى منزله فإذا الجارية قاعدة على الطريق تبكي، فقال لها رسول الله (ص): ما لكِ لا تأتين أهلكِ؟ قالت: يا رسول الله إنّي قد أبطأت عليهم أخاف أن يضربوني، فقال رسول الله (ص): مرّي بين يديّ ودليني على أهلكِ، وجاء رسول الله (ص) حتى وقف على باب دارهم ثمّ قال: السلام عليكم يا أهل الدار، فلم يجيبوه، فأعاد السلام فلم يجيبوه فأعاد السلام فقالوا: وعليك السلام يا رسول الله ورحمة الله وبركاته فقال لهم: ما لكم تركتم إجابتي في أوّل السلام والثاني؟ فقالوا: يا رسول الله سمعنا سلامك فأحببنا أن نستكثر منه، فقال رسول الله: إنّ هذه الجارية أبطأت عليكم فلا تؤذوها، فقالوا: يا رسول الله هي حرّة لممشاك، فقال رسول الله (ص): الحمد لله، ما رأيت إثني عشرة درهماً أعظم بركة من هذه، كسى الله بها عريانين وأعتق رقبه» .
هذه بعض الأمثلة من أخلاق سيّد البشرية الرسول الأكرم (ص) وما هي إلاّ غيضٌ من فيض وقطرة من بحر، وكفاه ما مدحه به ربّه بقوله تعالى: «وإنّك لعلى خلق عظيم» وكفى بذلك مدحةً، وقيل أنّ سبب نزول هذه الآية أنّه كان (ص) قد لبس برداً نجرانياً ذا حاشية قويّة، فبينما هو يمشي إذ جذبه أعرابي من خلفه فحزّت في عنقه  وقال له: أعطني عطائي يا محمّد، فالتفت إليه (ص) مبتسماً وأمر له بعطائه .
وأمّا أهل بيته المعصومين (ع) أجمعين فقد ورثوا علوم الأنبياء وفضائلهم وأخلاقهم، سيّما جدّ هم المصطفى (ص) فكانوا قمّة شامخة في السيرة الحسنة والخلق الرفيع وإليك بعض الأمثلة:
ورد عن أبي محمّد العسكري (ع) أنّه قال: «ورد على أمير المؤمنين (ع) أخوان له مؤمنان أب وابن فقام اليهما وأكرمهما وأجلسهما في صدر مجلسه وجلس بين يديهما، ثمّ أمر بطعام فاُحضر فأكلا منه ثمّ جاء قنبر بطست وإبريق خشب ومنديل، فأخذ أمير المؤمنين (ع) الإبريق فغسل يد الرجل بعد أن كان الرجل يمتنع من ذلك وتمرّغ في التراب وأقسم له أمير المؤمنين (ع) أن يغسل مطمئناً كما كان يغسل لو كان الصاب عليه قنبر ففعل، ثمّ ناول الإبريق محمّد بن الحنفية وقال: يا بني لو كان هذا الإبن حضرني دون أبيه لصببت على يده ولكنّ الله عزوجل يأبى أن يسوّي بين ابن وأبيه إذا جمعهما مكان، ولكن قد صبّ الأب على الأب فليصبّ الإبن على يد الإبن فصبّ محمّد بن الحنفية على يد الإبن .
ثمّ قال العسكري (ع): فمن اتّبع علياً على ذلك الشيعي حقاً»[6].
ومن الأمثلة على أخلاقهم سلام الله عليهم ما ورد عن الحسين (ع) من أنّه قد جنى غلامٌ له جناية توجب العقاب فامر به أن يضرب فقال الغلام: يا مولاي والكاظمين الغيظ . قال: خلّوا عنه . فقال: يا مولاي والعافين عن الناس . قال: قد عفوت عنك ، قال: يامولاي والله يحب المحسنين، قال: أنت حرّ لوجه الله ولك ضعف ما كنت أُعطيك[7].
وروي أنّه وقف على الأَمام علي بن الحسين (ع) رجل من أهل بيته  فاسمعه وشتمه، فلم يكلّمه، فلما إنصرف قال الأَمام (ع) لجلسائه: لقد سمعتم ما قال هذا الرجل ، وأنا أُحب أن تبلغوا معي إليه حتّى تسمعوا منّي ردّي عليه، فقالو  له: نفعل، ولقد كنّا نحب أن يقول له ويقول،فأخذ نعليه ومشى وهو يقول: «وَالكاظِمِينَ الغَيظَ وَ العافِينَ عَنِ النَّاسِ والله يُحِبُّ المُحسِنيِنَ» -ال عمران/ 134 - فعلمنا أنه لا يقول له شيئاً .

قال: فخرج حتّى أتى منزل الرجل، فصرخ به، فقال: قالوا له هذا علي بن الحسين،قال: فخرج متوثّباً للشرّ وهو لايشك أنّه إنّما جاء مكافئاً له على بعض ما كان منه فقال له علي ابن الحسين (ع): يا أخي إنّك وقفت عليّ آنفاً وقلت ما قلت فإن كنت قلت ما فيّ فأستغفر الله منه، وإن كنت قلت ماليس فيّ فغفر الله لك، قال: فقبّله الرجل بين عينيه وقال: بل قلت فيك ما ليس فيك وأنا أحقّ به .
هذه هي سيرة الرسول وأهل بيته والتي تشكّل التطبيق العملي للمنهج والنظريّة التي رسمتها السماء لتكامل الإنسان ورقيّه والتي ينبغي لكلّ إنسان فضلاً عن الإنسان المسلم أن يقتدي بهم في حياته وسلوكه قال الله تعالى: «ولَكُمْ في رَسُول الله أُسوة حسنة» - الأحزاب/ 21 - وهذا ما أشار له الأَمام الصادق (ع).

2ـ سوء الخلق
 
هو انحراف نفسي يسبب إنقباض الإنسان وغلظته وشراسته نقيض حُسن الخُلق.
وسوء الخُلق من العيوب الخلقية والعادات غير المرضيّة التي لها آثار سيئة على المتـَّصف بها فإنّها تشوّه صورة أَخلاقه وتحط من كرامته في المجتمع وتجعله عرضة للمقت والازدراء وهدفاً للنقد والذم وتجر له كثيراً من المآسي والأزمات الجسمية والنفسيّة والمادية والروحية .
ولا تقتصر آثارها على الفرد فحسب بل تنعكس على المجتمع وبُنْيَته فتزلزل أُسس المحبّة والمَودّة وتقطع حبال الوصل بين أبناء المجتمع الذي أراده الله تبارك وتعالى أن يكون مجتمعاً قوياً متماسكاً قائماً على أساس الحب والولاء بين أفراده .
من أجل ذلك تساند العقل والنقل على ذمّهِ والتحذير منه، وإليك بعض الأمثلة من ذلك .
قال النبي (ص): «عليكم بحسن الخلق فانّ حَسِن الخلق في الجنّة لا محالة، وإيّاكُم وسوء الخلق فانّ سوء الخلق في النار لا محالة» .
وقال أيضاً: «أبى الله لصاحب الخلق السيء بالتوبة، قيل: فكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: لانّه إذا تاب من ذنب وقع في ذنب أعظم منه» .
وسئل (ص) عن الشؤم فقال: سوء الخلق .
وقال (ص): «سوء الخلق شؤم وشراركم أسوأكم خلقاً» .
وقال الأَمام الصادق (ع): «إن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل».
وقال (ع) أيضاً: «من ساء خلقه عذَّب نفسه» .                                               
وقال (ع): «إن شئتَ أن تكرم فلِن, وإنْ  شئت أن تـُهان فاخشن» .                      
وروي أنّ سعد بن معاذ عندما توفيّ شيَّعه سبعون ألف ملك، ومع ذلك أصابته ضمّة القبر لسوء خلقه في أهله·
هذا هو سوء الخلق وهذه آثاره المدمّرة، والتي تضمّنتها الروايات من تنفير الناس عن صاحب الخلق السيّء، وإدخاله النار ومنعه التوبة، وإنّّهُ شؤم مفسِد للعمل، ومعذب لصاحبه إذ يسبّب له المشاكل ويدخله في المتاهات ويؤدّي به إلى  الذلِّ والهوان .                       

  - الأخلاق الفردية

  1- محاسبة النفس و مراقبتها
  تعريف المحاسبة:
 هي أن يعيّن الإنسان في كلّ يوم وليلة وقتاً يحاسب فيه نفسه بموازنة طاعاته ومعاصيه،ليعاتب نفسه ويقهرها لو وجدها في هذا اليوم والليلة مقصّرة في طاعة واجبة أو مرتكبة لمعصية، ويشكر الله سبحانه لو أتت نفسه بجميع الواجبات ولم يصدر منها معصية، ويزيد الشكر لو صدر منها شيٌ من الخيرات والطاعات المندوبة .[8]
 وبعبارة أُخرى: يحاسب نفسه كلّ يوم عمّاعملته من الطاعات والمبرّات ، أو إقترفته من المعاصي والآثام، فإِن رجحت كفّة الطاعات على المعاصي، والحسنات على السيئات، شكر الله تعالى لِما وفّقه إليه وشرّفه به من جميل طاعته وشرف رضاه، وإن رجحت المعاصي - والعياذ بالله - أدّبَ نفسه بالتأنيب والترقيع على شذوذها وانحرافها عن طاعة الله عزوجل [9] ويحملها على ترك المعاصي وممارسة الطاعات.
 والمراقبة: أن يلاحظ الإنسان ظاهره وباطنه دائماًحتّى لا يقدِم على شي‏ء من المعاصي ولا يترك شيئاً من الواجبات ليتوجّه عليه اللوم والندامة وقت المحاسبة .[10]
 وبعبارة أخرى المراقبة هي ضبط النفس وصيانتها عن الإخلال بالواجبات واقتراف المحرّمات .[11]

2- يوم الحساب و أهوالِه
      دلّ النقل والعقل على ثبوت المحاسبة في يوم القيامة وعلم أرباب البصائر أن العليم بالسرائر والمطـّلع على الضمائر سيحاسبهم على كلّ صغيرة وكبيرة، ويطالبهم بمثقال الذرّه من الأعمال، والخطرات واللحظات.
 قال تعالى:( َونَضعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نفسٌ شَيْئاً وَ إن كَان مِثقَال حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَينَا بِهَا وكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)[12]
 وقال تعالى: ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيُنِبَئُهُم بِمَا عَمِلُوْا أَحصَاهُ الله ونَسُوُه والله عَلَى كُلّ شَيء شَهِيدٌ) .[13]
 وقال تعالى: ( وَوُضع الكِتَابُ فَتَرى المُجرِمينَ مُشفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يَا وَيلَتَنَا مَا لِهذا الكِتَابِ لايُغادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً إلاّ أحصَاهَا وَوَجدُوْا مَا عَمِلُوْا حَاضِراً ولا يَظِلمُ رَبُّكَ أَحَدَاً) .[14]
 وقال تعالى: ( يَوْمئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُروَا أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَل مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرَاً يَرَهُ وَ مِن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهُ ) .[15]
 وقال تعالى: ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ومَا عَمِلَتْ من سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أنّ بينها وَبَيْنَهُ أمداً بعيداً ) .[16]
 وقال تعالى: ( ثُمَّ تُوَفَّى كُلّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) .[17]
 وقال تعالى: ( فَوَ َربِّكَ لَنَسْئَلَنّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .[18]
 وقال تعالى: ( يا بُنَىّ إِنَّها اِنْ تَكُ مثقال حَبّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن في صَخْرَةٍ أَوْ في السَّمَوَاتِ أَوْ في الأَرْضِ يَأْتِ بِها الله إِنّ الله لَطِيفٌ خَبيرٌ ) .[19]
 وقال رسول الله (ص): ( ما منكم من أحدٍ إلاّ ويسأله ربّ العالمين ليس بينه وبينه ترجمان ) .[20]
 وروي بطرق متعددة ( أنّ كلّ أحد في القيامة لا يرفع قدماً عن قدم حتّى يُسأل عن عمره فيما أفناه وعن جسده فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه   (
 الى غير ذلك من الآيات والروايات الواردة في يوم الحساب وعسره وأهواله وأنّ الإنسان يسأل فيه عن الصغير والكبير، والقليل والكثير، والجليل والحقير، اكثر من أن تحصى.

3- أهمية المحاسبة و المراقبة
 حينما يعلم الإنسان صاحب العقل السليم أنه سيحاسب على كلّ أفعاله وأعماله وحركاته وسكناته وأنّ المحاسِب لا تخفى عليه خافية ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها وأنّه على كلّ شي‏ء شهيد فالجدير به أن يستعدَّ لذلك اليوم ويحسب له حسابه ليخرج من ذلك الإِمتحان الإلهي العظيم مرفوع الرأس مستبشراً بالنتائج راضياً مرضيّاً، فالجدير بالعاقل المستنير بالإِيمان واليقين أن يروض نفسه على المحاسبة والمراقبة في الدنيا، فإنّها أمّارة بالسوء متى اُهملت زاغت عن الحقِّ وانجرفت في الآثام والشهوات وأو دت   بصاحبها في مهاوي الشقاء والهلاك، ومتى أُخذت بالتوجيه والتهذيب أشرقت بالفضائل وازدهرت بالمكارم وسمت بصاحبها نحو السعادة والهناء قال الله تعالى: «وَنَفْسٍ ومَا سَوَّاها، فَأَلهَمَها فُجُورَهَا وَتَقْوَاها، قَدْ أَفلَحَ مَن زَكَّاها وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاها«الشمس:7-10·
 من هنا يتّضح ما للمحاسبة والمراقبة من أهمية كبرى في تأهب المؤمن واستعداده لمواجهة حساب الآخرة وأهواله الرهيبة، ومن ثمّ إهتمامه بالتزوّد من أعمال البر والخير الباعثة على نجاته وسعادة مآبه، وتجنّبه المعاصي والآثام وأعمال الشرّ الباعثة على هلاكه وشقائه في الدارين.

  4- المحاسبة و المراقبة في النصوص
 من هنا أكّدت الشريعة كتاباً وسنّةً على وجوب المحاسبة والمراقبة وإليك بعض النصوص:
1- قال تعالى: ( يا أيُّها الَّذين آمَنُوا إتَّقُوا الله ولْتَنْظُر نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ، واتَّقُوا الله إنّ الله خَبِيرٌ بما تَعمَلُون، وَلا تَكُونُوا كَالَّذينَ نَسُوا الله فأنسَاهُم أنْفُسَهُم أُولئِكَ هُمْ الفاسِقُونَ ) الحشر: .19 - 18
 فإِنَّّ المراد من هذا النظر هو المحاسبة على الأعمال.
2- قال رسول الله (ص): ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تـُحاسَبواوزنوها قبل أن توزنوا وتجهّزوا للعرض الأكبر ) .[21]
3- قال الأَمام الصادق (ع): ( إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربّه شيئاً إلاّ أعطاه فلييأس من الناس كلّهم ولا يكون له رجاء إلاّ من عند الله تعالى، فإِذا علم الله تعالى ذلك من قلبه لم يسأل شيئاً إلاّ أعطاه، فحاسِبوا أنفسكم قبل أن تـُحاسِبوا عليها، فانّ للقيامة خمسين موقفاً كلّ موقف مقام ألف سنة، ثمّ تلا:( في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) المعارج:4[22].
4- وقال رسول الله (ص): ( أكيس الكيسيّن من حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت، وأحمق الحمقى منْ اتّبع هواه وتمنّى على الله الأماني ) .
5- وقال (ص) أيضاً: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ومهّدوا لها قبل أن تعذبوا، وتزوّدوا للرحيل قبل أن تُزعجوا، فإنّها موقف عدل، وإقتضاء حقّ، وسؤال عن واجب، وقد أبلغ في الأعذار من تقدّم وبالإنذار (
6- وعن إمام المتّقين وأمير المؤمنين (ع): ( حاسبوا أنفسكم بأعمالها وطالبوها بأَداء المفروض عليها، والأخذ من فنائها لبقائها، وتزوّدوا وتأهبوا قبل أنْ تـُبعثوا).
  7- وعن  النبي الأكرم (ص): «لا يكون الرجل من المُتـّقين حتّى يحاسِبَ نفسه أشدّ من محاسبة الشريك شريكه، فيعلم من أين مطعمه؟ ومن أين مشربه؟ ومن أين ملبسه؟ أمن حلّ ذلك أم من حرام«.
  8- وعن الأَمام الصادق (ع): إذا آويت إلى  فراشك فانظر ما سلكت في بطنك، وما كسبت في يومك، واذكر أنّك ميّت وأنَّ لك معاداً.«
9- وعن الأَمام الصادق (ع) أيضا قال: ) إنّ رجلاً أتى النبي (ص) فقال له: يا رسول الله أوصني.
 فقال له رسول الله (ص) فهل أنت مستوصٍ إن أنا أوصيتك؟ حتّى قال له ذلك ثلاثاً، وفي كلّها يقول له الرجل: نعم يا رسول الله.
 فقال له رسول الله (ص): ) فانّي أُوصيك إذا هممت بأمرٍ فتدبّر عاقبته فإن يك رشداً فأمضه وإن يك غيّاً فانته عنه(
  10- وقال الأَمام موسى بن جعفر (ع): ) ليس منّا مَنْ لم يحاسب نفسه في‏ كلِّ يوم، فإِنْ عمل حسنة إستزاد الله تعالى، وإن عمل سيئة استغفر الله تعالى منها وتاب إليه(·
  11- وعنه أيضاً عن أبيه عن آبائه (ع) قال: قال أمير المؤمنين (ع): إنّ رسول الله (ص) بعث سريَّة فلمّا رجعوا قال: ) مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس. ثمّ قال: أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه .(
  12- وقال الأَمام الصادق (ع) لرجل: ) إنّك قد جُعلتَ طبيبُ نفسِكَ، وبُيّن لكَ الداء، وعُرِّفت آية الصحةّ، ودُللت على الدواء، فانظر كيف قياسك على نفسك . (
  13- وعن الأَمام السّجاد (ع)): إبن آدم لاتزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك وما كانت المحاسبة من همّك وما كان الخوف لك شعاراً والحزن لك دِثاراً، ابن آدم إنّك ميّت وموقوف بين يدي الله عزوجل ومسؤول فأعدّ جواباً.
  14- ما روي عن رسول الله (ص) أنّه قال لأبي ذر )رض: )يا أباذر حاسب نفسك قبل أنْ تـُحاسب فإنّه أهون لحسابك غداً، وزن نفسك قبل أن توزن وتجهّز للعرض الأكبر يوم تـُعرض لاتخفى على الله خافية.. يا أباذر لا يكون الرجل من المتّقين حتّى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبته لشريكه فيعلم من أين مطعمه ومن أين مشربه، ومن أين ملبسه، أمن حلال أم من حرام؟ يا أباذر من لم يبال من أين اكتسب المال لم يبال الله من أين أدخله النار ) [23]
 وقد ورد في هذا الحديث وكذا بعض الأحاديث المتقدّمة الأمر بعناوين ثلاثة:
 الأوّل: محاسبة النفس قبل أنْ تـُحاسب.
 الثاني: وزن النفس قبل أنْ تـُوزن.
 الثالث: الاستعداد والتجهّز للعرض الأكبر والحساب الأعسر الذي سوف يكون في الآخرة على من لا يخفى عليه خافية.
 وهذه العناوين الثلاثة وإن كانت مترابطة ولكن الظاهر وجود فرق بينها فكأن المقصود بالمحاسبة: محاسبة ما صدرت عن النفس من الأعمال لكي يعرف الخير منها من الشر، والمقصود بالموازنة: الموازنة بين واقع ما وصلت إليه النفس من المستوى في هذا الحين وما ينبغي أن تصل إليه كي يعرف مدى ما هو عليه من النقص. والمقصود بالتجهّز للعرض الأكبر: ما ينبغي أن يكون نتيجة المحاسبة والموازنة من تدارك مافات وإكمال النقائص ) .[24]
15- قال رسول الله (ص) لأبي ذر رضوان الله عليه: »... يا أباذر اعبد الله كأنّك تراه فإن كنت لاتراه فانّه يراك ) .[25]
16- وقال (ص): ( الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك ) [26]
17- وفي الحديث القدسي: ( إنّما يسكن جنّات عدن، الذين إذا همّوا بالمعاصي ذكروا عظمتي فراقبوني، والذين انحنت أصلابهم من خشيتي، وعزّتي وجلالي إنّي لأهمّ بعذاب أهل الأرض فاذا نظرت إلى  أهل الجوع والعطش من مخافتي صرفت عنهم العذاب ) .[27]
18- وقال علي (ع): ( إعلموا عباد الله أنّ عليكم رصداً من أنفسكم، وعيوناً من جوارحكم، وحفّاظ صدق يحفظون أعمالكم وعدد أنفاسكم، لا تستركم منهم ظلمة ليل داج ولا يكنّكم منهم باب ذو رتاج ) .[28]

  5- من قصص المحاسبة و المراقبة
 1- ورد في الحديث عن مولانا زين العابدين (ع): أنّه حينما إخْتـَلـَتْ إمرأةُ العزيزِ بيوسف قامت إلى  الصنم فألقت عليه ثوباً، فقال لها يوسف: » ما هذا؟ فقالت: أستحي من الصنم أن يرانا، فقال لها يوسف: أتستحين مِمَّن لا يسمع ولا يبصر ولا يفقه ولايأكل ولا يشرب ولا أستحي أنا ممّن خلق الإنسان وعلمه«؟! [29].
  2- حكي عن بعض الأحداث أنّه راود جارية عن نفسها ليلاً فقالت: ألا تستحي؟ فقال: ممّن أستحي وما يرانا إلاّ الكواكب فقالت: وأين مكوكبها) [30].
  3- نقل عن توبة ابن الصحة وكان محاسِباً لنفسه في أكثر أوقات ليله ونهاره - أنّه حسِب يوماً ما مضى من عمره فإذا هو ستـّون سنة، فحسب أيامها فكانت إحدى وعشرين ألف يوم وخمسمائة يوم فقال: يا ويلتاه!! ألقى مالكاً بإحدى وعشرين ألف ذنب، ثمّ صعق صعقةً كانت فيها نفسه.[31]
 وما أعظم العبرة من هذه القصّة لمن يعتبر فإنّنا لو التفتنا إلى  أعمارنا مهما بلغت أربعين أم خمسين أم أكثر أم أقل فانّنا لو أذنبنا في كلّ يوم ذنباً واحداً لبلغت ذنوبنا آلافا ولكان حريٌ بنا أن نصعق كما صعق ابن الصحة.

  4- نقل إنّ الخواجه ربيع وضع عنده قلماً وقرطاساً، وكان يكتب كلّما يقول ويفعل من أوّل اليوم إلى  وقت نومه في الليل ثمّ ينظر فيه، فما كان من الطاعات يشكر الله عليه وما كان من القبائح يستغفر الله تعالى منه [32].


 دستور المحاسبة

 ذكر بعض المعنيين بدراسة الأخلاق دستور المحاسبة والمراقبة [33] بأَسلوب مُفصّل ربمّا يشقّ على عامّة الناس تنفيذه، حيث ذكروا في أنّه لابدّ في المحاسبة من المرابطة مع النفس بالمشارطة ثمّ المراقبة ثمّ المحاسبة ثمّ المجاهدة ثمّ المعاتبة، وأصلها كلّها هو المحاسبة لكن الحساب يجب أَنْ يكون بعد المشارطة والمراقبة وتتبعه بعد الخسران.
 اولاً: المشارطة: وهي أن يشارط الإنسان نفسه ويأخذ منها العهد والميثاق في كلّ يوم وليلة مرّة أن لا يرتكب المعاصي ولا يقصّر في شي‏ء من الطاعات الواجبة، ولايصدر منها شي‏ء يوجب سخط الله، وأن لا يترك ما تيسر له من الخيرات، فانّ عمر الإنسان رأس ماله الحقيقي وهو أمانة بيده ونفسه أمّارة بالسوء ولو غفل عنها فرَّطت بهذا المال فعليه أن يشارطها في كلّ يوم على أن لا يتصرَّف في رأس المال هذا إلاّ في الطاعات فانّ ساعات عمره خزائن من الأموال والمجوهرات مودعة لديه يمكن أن يشتري بها كنزاً من الكنوز لا يتناهى نعيمها أبد الآبدين.
 وقد ورد في الحديث أنّ كلّ عبد خلقت له بازاء كلّ يوم وليلة من عمره أربع وعشرين خزانة مصفوفة فإذا مات تفتح له هذه الخزائن ويشاهد كلّ واحد منها ويدخلها، فاذا فتحت له خزانة خلقت بازاء الساعة التي أطاع الله فيها، يراها مملوءة نوراً من حسناته التي عملها في تلك الساعة فيناله من الفرح والأَستبشار مالو وزع على أهل النار لأدهشهم عن الإحساس بألم النار، وإذا فتحت له خزانة خلقت بازاء الساعة التي عصى الله فيها يراها سوداء مظلمة منتنة مفزعة، فيناله عند مشاهدتها من الفزع والجزع ما لو قسّم على أهل الجنة لنغّصَ عليهم نعيمها، وإذا فتحت له خزانة خلقت بازاء الساعة التي غفل أو نام فيها أو اشتغل فيها بشي‏ء من مباحات الدُنيا، فإنّه يراها فارغة ليس فيها ما يسرّه ولا ما يسوؤه، فيناله من الغبن والأسف على فواتها حيث كان متمكّناً من أن يملأها حسنات مالا يوصف ومن هذا قوله تعالى« ذَلِكِ يِوْمُ التَّغابُن »ِ التغابن/ .9
 ثانياً: المراقبة: وهي أن يراقب الإنسان نفسه عند الخوض في الأعمال فأَنّ مجرّد المشارطة مع النفس لا تكفي فان النفس قد تخون الشرط فانّها أمّارة بالسوء إلا مارحم ربّي.
 قال الأَمام زين العابدين (ع) في مناجاة الشاكين: «اللهم إليك أشكو نفساً بالسوء أمّارة وإلى الخطئية مبادرة وإلى  ما يسرها طامحة...«.
 فلابدّ إذن من متابعة النفس ومراقبتها في حالتين:

 الأُولى: حالة ما قبل العمل كي يتأكّد من الدوافع والأغراض فأَنّ النفس قد تخدع نفسها وقد يغفل الإنسان عن دوافعه الحقيقية أو يكون دافعه مركّبا من الدافع الإلهي وغيره فيغفل عن الجزء الثاني وينسب إلى  نفسه الإخلاص.
 الثانية: حالة العمل كي يتأكّد من صحّته وعدم الإنحراف فيه وعدم الإنصراف عنه إن كان عملاً صالحاً.
 ثمّ أنّ المراقبة إلى  جهتين:
 الجهة الأُولى: مراقبة الإنسان نفسه قبل العمل وحينه كي لاتخطأ ولاتنحرف.
 الجهة الثانية: ملاحظة الرقيب الحقيقي الذي هو الله تبارك وتعالى والذي يراقب عبده في كلّ أحواله.
 قال تعالى: ( إنّ الله كَانَ عَلَيكُم رَقِيباً ) النساء: .1
 وقال تعالى: ( أَلِمْ يَعْلَم بأَنَّ الله يَرَى ) العلق: .14
 ومن ذلك قول رسول الله (ص) المتقدم لأبي ذر (رض): «...يا أباذر اعبد الله كأنّك تراه فإنْ كنت لا تراه فأنَّهُ يراك» ونحوه.


 درجات المراقبة

 بما أنّ المراقبة هي ملاحظة الرقيب وتحصل من معرفة الله تبارك وتعالى، والعلم باطلاعه على الضمائر وعلمه بالسرائر لا تخفى عليه خافية، هذا من جانب ومن جانب، آخر المعرفة بعظمة الرقيب وقدرته، كانت له درجات فإنّ الموقنين بهذه المعرفة تكون مراقبتهم على درجتين:
 إحداهما: مراقبة المقرَّبين، وهي مراقبة التعظيم والجلال فإنَّهم بسبب معرفتهم بعظمة الباري وجلاله تصير قلوبهم مستغرقةً بملاحظة ذلك الجلال ومنكسرةً تحت تلك الهيبة والعظمة فلا يبقى فيها مُتّسع للألتفاتَ إلى  الغير، وهؤلاء هم الذين صار همّهم همّاً واحداً وكفاهم الله سائر الهموم.
 الثانية: مراقبة الورعين من أصحاب اليمين، وهم قومٌ غلب يقين إطلاع الله على خواطرهم وبواطنهم، ولكن لم يدهشهم ملاحظة الجمال والجلال بل بقيت قلوبهم على حدِّ الاعتدال متسعة للتلّفت إلى الأحوال والأعمال والمراقبة فيها، وغلب عليهم الحياء من الله تبارك وتعالى، فلا يقدمون ولا يحجمون إلاّ بعد التثبّت، ويمتنعون عن كلّ ما يُفضحون به في يوم القيامة لانّهم يرون الله مطّلعاً على ظاهرهم وباطنهم وسرّهم وعلنهم.
 فعلينا أن نراقب الله سبحانه وتعالى - في الأقل - بقدر مراقبتنا للإنسان الأَعتيادي، ونستحي منه بقدر حيائنا من الإنسان الأَعتيادي فإن أحدنا عندما يريد أن يرتكب عملاً خلافياً ويعلم أنّ شخصاً مطّلع عليه نراه يمتنع خوفاً أو حياءاً.
 وما أروع ما في دعاء أبي حمزة الثمالي: « فلو اطلع اليوم على ذنبي غيرُك ما فعلته، ولو خفت تعجيل العقوبة لا جتنبته» لكن الذي عليه قول الأَمام (ع) بعد ذلك: «لا لأنّك أهون الناظرين إليّ وأخف المطّلعين عليّ بل لأنَّك يا ربّ خير الساترين وأحكم الحاكمين وأكرم الأكرمين ستّار العيوب غفّار الذنوب عَلاّم الغيوب تستر الذنب بكرمك وتؤخّر العقوبة بحلمك...«.
 »المراقبة وحالات العبد«
 المراقبة بالمعنى الأوّل - وتعني مراقبة الإنسان نفسه في العمل- إذْ لا يخلو العبد فيها إمّا أن يكون في طاعة أو معصية أو مباح فمراقبته في الطاعة: بالقربة والأخلاص والحضور والإكمال وحراستها عن الآفات ومراعاة الأدب.
 ومراقبته في المعصية: بالتوبة والندم والإقلاع والحياء والاشتغال بالتفكير.
 ومراقبته في المباح: بمراعاة الآداب كأن يأكل بعد غسل اليدين والتسمية وغير ذلك من الآداب المقررة للأكل في الشرع المقدَّس، وأن ينام بعد الوضوء على اليد اليمنى مستقبلاً القبلة إلى  غير ذلك.
 فكل ذلك داخل في المراقبة وبشهود المُنعِم في النعمة وبالشكر عليها، والصبر على البلاء فانّ لكلّ منها حدوداً لابدّ من مراعاتها بدوام المراقبة، قال تعالى: ( ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه ) الطلاق: 1 .[34]
 ثالثاً: المحاسبة: وهي أن يعيّن الإنسان وقتاً في آخر النهار وآخر الليل ويحاسب نفسه عمّا فعله في نهاره أو ليلته فإن رأى أنّها قد عملت بالوظيفة شكر الله واستزاده في ذلك، وإن رأى التقصير تاب وتدارك ما مضى.
 رابعاً: المعاقبة والمعاتبة
 وذلك فيما لو تبيّن له تقصير النفس في أداءِ الوظيفة والتقصير فيما شرط عليها فإِنّه ينبغي له أن يوبّخها ويعاتبها ويؤدّبها ويعاقبها ببعض العقوبات.
 وقد فصل بعضهم بين المعاقبة والمعاتبة واعتبر الثانية متأخّرة عن الأُولى واعتبرهما البعض في عرض واحد.
 خامساً: المجاهدة: فانّ الإنسان بعد أن يرى من نفسه التقصير ينبغي له أن يجاهدها من خلال تدارك مافات والاستزادة مِمّا يأتي:(وَالِّذينَ جَاهَدوا فِينَا لَنَهديَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإنَّ الله لَمَعَ المُحْسِنِين )َ. العنكبوت /69.
 وعن الأَمام الصادق (ع): ( طوبى لعبدٍ جاهد لله نفسه وهواه )


3- الخُلق العبادي

  1- الإخلاص
 2- معنى الإخلاص و حقيقته:
 الإخلاص هو تجريد القصد عن الشوائب كلها[35]، وصفاء الأعمال منها وجعلها خالصة لله تعالى  .[36]
 والمخلِص (بكسر اللام) هو الذي أخلص الفعل من كلّ غاية سوى الله تعالى، وقصد التقرّب اليه سبحانه من دون قصد شي‏ء آخر أصلاً.
 والمخلَص (بالفتح) يعكس خلوص الإنسان من كلّ رجاسة ونجاسة.
 والإخلاص مقدّمةٌ للخلوص فإنّ الإنسان إذا أخلص في عمله ولم يقصد به إلاّ وجه الله تعالى استخلصه الله وطهّره من كلّ رجس قال تعالى:(...كَذَلك لنَصرِف عَنهُ السُّوء والفَحشَاء إنّه مِنْ عِبَادنا المُخلـَصين )
والعمل الخالص هو العمل الذي تقصد به وجه الله خالصاً لا تريد أن يُثيبكَ أو يمدحك عليه إلاّ الله عزوجل ).[37]
 فمن عمل عملاً وضمَّ إلى  قصد القربى لله قصداً آخر كما لو تصدَّق على الفقير بقصد الشهرة أو التخلّص من إبرامه أو غير ذلك، أو أعتق العبد لأجل التخلّص من مؤونته أو سوء خلقه أو طلب العلم لأجل الشهرة والعزّة بين الناس أو طلب المال أو ما إلى ذلك، فقد خرج عمله عن حد الإخلاص وتطرّق الشرك اليه .[38]

  2- فضيلة الإخلاص:
 ليست قيمة العمل بحجمه في القلّة والكثرة وإنّما بأهدافه وغاياته والبواعث المحُفّزة عليه، فإذا كانت الغاية سامية والهدف عظيماً والبواعث نزيهة كان العمل له قيمة كبيرة ومقبولاً لدى المولى عزوجل.
 وبما أنّ البواعث الدنيوية كلُّها زائلة ومؤقتة ومتغيّرة فلابدّ أن يكون العمل الذي قصدت به عملاً محدوداً زائلاً مؤقّتاً ليس له قيمة ثابتة.
 وأمّا وجه الله تبارك وتعالى فإنّه الباقي الدائم فيكون العمل الخالص له يعطي ثماره في دار الدنيا ودار الآخرة معاً فانّ الدنيا مزرعة الآخرة كما ورد في الأخبار.
 وليس الباعث في عرف الشريعة الإسلامية إلاّ النيّة المُحفِّزة على الأعمال، فمتى خلصت لله تعالى وَصَفَت من كدر الرياء وغيره، نبلت وسعدت بشرف رضوان الله تعالى وقبوله ومتى شابها الخداع والرياء والنفاق باءت بسخطه ورفضه.

 لذلك كان‏ الإخلاص حجر الأساس في كيان العقائد والشرائع، وشرطاً أساسياً وواقعياً في صحة الأعمال وقبولها ).[39]
 من هنا أكَّدت الشريعة المقدّسة كتاباً وسنّة على الإخلاص ممجدةً له مبينةً لفضله مؤكّدةً على أنه المناط في قبول الأعمال مادحةً المتحلين به وإليك بعض ما طفحت به مصادر الشريعة من النصوص الشريفة.

3-   الاخلاص في نصوص الشريعة:
 أ- القرآن الكريم
  1- قال تعالى: ( وَمَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِين لَهُ الدّين ) البينة :.5
 2- وقال تعالى: ( فاعْبُدْ الله مُخْلِصاً لَّه الدّينِ أَلا لله الدِينُ الخَالِصُ ) الزمر: .3-2
 3- وقال تعالى: ( إلاّ الذِين تَابُوا وأَصْلَحُوا واعْتَصَمُوا بِالله وأَخلَصُوا دِينَهُم لله)ِ النساء: .146
 4- وقال تعالى: ( فَمَن كَانَ يَرجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَليَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ولا يُشرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا) الكهف: .110
 الى غير ذلك.

 ب - الاخلاص في الروايات
  1- في الخبر القدسي: ( الإخلاص سرّ من أسراري إستودعته قلب من أحببت من عبادي ).[40]
  2- عن النبي (ص) قال: ( إنّ أو لى الناس أن يقضى يوم القيامة عليه رجل إستشهد فأُتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتّى إستشهدت، قال: كذبت، ولكنّك قاتلت ليقال جري‏ء فقد قيل ذلك، ثمّ أُمر به فسحب على وجهه حتّى أُلقي في النار.ورجلٌ تعلّم العلم وعلّمه وقرأ القرآن فأُتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلّمتُ العِلمَ وعلّمته وقرأتُ فيكَ القرآن، قال: كذبت ولكنّك تعلّمت ليقال: عالم وقرأت القرآن ليقال: قارى‏ء القرآن، فقد قيل ثمّ أُمر به فسحب على وجهه حتّى أُلقي في النار ).[41]
 3- وقال (ص): ( إنّما الأعمال بالنيّات، وإنّما لكلّ إمرى‏ءٍ مانوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى  أمر الدنيا يصيبها أو إمرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر اليه  (
4- عن الرضا (ع) عن آبائه (ع) قال: ( قال أمير المؤمنين (ع): الدنيا كلّها جهل إلاّ مواضع العلم، والعلم كلّه حجة إلاّ ما عمل به، والعمل كلّه رياء إلاّ ما كان مخلصاً، والإخلاص كلّه خطر حتى ينظر العبد بما يختم له ) (4).
  5- قال رسول الله (ص): ( من أخلص لله أربعين يوماً فجّر الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه )[42].
 6- عن أبي جعفر الجواد (ع): ( أفضل العبادة الأَخلاص )[43] .
  7- عن علي بن أبي طالب (ع): ( لا تهتمّوا لقلّة العمل، إهتموا للقبول فأنّ النبي (ص) قال لمعاذ بن جبل: أخلص العمل يجزيك منه القليل )[44]
  8- روي أنّ رجلاً قال لرسول الله (ص): « يا رسول الله (ص) إنّا نعطي أموالنا إلتماس الذِكر فهل لنا من أجر؟ فقال رسول الله (ص): لا، قال: يا رسول الله إنّا نعطي إلتماس الأجر والذِكر، فهل لنا أجراً؟ فقال رسول الله (ص): إنّ الله تعالى لا يقبل إلاّ مِمَّنْ أخلص له، ثمّ تلا رسول الله (ص) هذه الآية {أَلا لله الدِينُ الخَالِصُ...} الزمر: .3[45]
 9-  عن الصادق (ع): « من أحبّ لله وأبغض لله وأعطى لله، ومنع لله فهو ممّن يكمل إيمانه«.[46]
 وعنه (ع) أيضاً: « من أو ثق عرى الايمان أن تحب لله وتبغض لله وتعطي فى الله وتمنع في الله[47]  وعنه (ع) أيضاً: « ما أنعم الله عزوجل على عبد أجل من أن لايكون في قلبه مع الله عزّوجل غيره« .[48]
  10- عن الصدّيقة الطاهرة سيّدة النساء سلام الله عليها قالت: «من أصعد إلى  الله خالص عبادته أهبط الله - عزوجل - إليه أفضل مصلحته«.
  11- عن الصادق (ع) في قوله تعالى: « لِيَبْلُوَكُمْ أيُّكُم أحْسَنُ عَمَلا« هود:  .7قال: ليس يعني أكثرهم عملا وإنّما الأَصابة خشية الله، والنيّة الصادقة. ثمّ قال: الإبقاء على العمل حتّى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلاّ الله عزّوجل، والنيّة أفضل من العمل، ألا وإنّ النية هي العمل، ثمّ تلا قوله تعالى: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ« يعني على نيته.[49]

12- عن الباقر (ع) قال: « ما أخلص عبدٌ الأَيمان بالله أربعين يوماً- أو قال: ما أجمل عبد ذكر الله أربعين يوماً- إلاّ زهّده الله في الدُنيا وبصّره داءها ودواءها وأثبت الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه«·[50]
 13- عن الرضا (ع) أنّ أمير المؤمنين (ع) كان يقول: « طوبى لِمن أخلص للهِ العبادة والدعاء ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه ولم ينسَ ذكر الله بما تسمع أُذناه، ولم يحرك صدره بما أُعطي غيره«[51]
  14- عن الأَمام عليّ‏ (ع): « كلّما أخلصت عملاً بلغت من الآخرة أملا«.
  15- عن رسول الله (ص): « إعمل لوجهٍ واحد يَكفيكَ الوجوه كلّها«.
  16- قال رسول الله (ص): « بالأَخلاص تتفاضل مراتب المؤمنين«.
  17- عن الأَمام علي (ع): « طوبى لمن أخلص لله عمله وعلمه وحبّه وبغضه وأخذه وتركه وكلامه وصمته وفعله وقوله«.
  18- وعنه (ع): « تصفية العمل خيرٌ من العمل«.
  19- وعن رسول الله (ص): « إنّما نصر الله هذه الأُمّة بضعفائها ودعوتهم وإخلاصهم وصلاتهم«.
  20- عن رسول الله (ص): « إذا عملت عملاً فاعمل لله خالصاً لأنّه لا يقبل من عباده الأعمال إلاّ ما كان خالصا«.
  21- وعنه (ص): « ليست الصلاة قيامك وقعودك إنّما الصلاة إخلاصك وأن تريد بها وجه الله«.
 22- عن علي (ع): « ضاع من كان له مقصد غير الله«.  -
23 - وعن الصادق (ع): « من قال لا إله إلاّ الله مخلصاً دخل الجنّة وإخلاصه أن يحجزه لا إله إلاّ الله عمّا حرّم الله«.
  24- عن رسول الله (ص): « تمام الإخلاص إجتناب المعاصي«.[52]
 الى غير ذلك من الروايات الكثيرة.

 4- من قصص الاخلاص:
 القصة الأولى: حكاية العابد و الشيطان
 رويَ أَنَّ عابداً كان يعبد الله دهراً طويلاً فجاءه قومٌ فقالوا: إنّ هنا قوماً يعبدون شجرة من دون الله تعالى فغضب لذلك فأخذ فأسه على عاتقه وقصد الشجرة ليقطعها، فاستقبله إبليس في صورة شيخ فقال: أين تريد رحمكَ الله؟ قال: أُريد أن أقطع هذه الشجرة، قال: وما أنت وذاك تركت عبادتك وانشغالك بنفسك وتفرّغت لغير ذلك، فقال: إنّ هذا من عبادتي، قال: فانّي لا أتركك أن تقطعها فقاتله، فأخذه العابد وطرحه على الأرض وقعد على صدره، فقال له إبليس: أطلقني حتّى اُكلّمك فقام عنه فقال له إبليس: يا هذا إنّ الله عزوجل قد أسقط عنك هذا ولم يفرضه عليك، وما تعبدها أنت وما عليك من غيرك ولله تعالى أنبياء في الأرض ولو شاء لبعثهم إلى أهلها وأمرهم بقطعها، قال العابد: لابدّ لي من قطعها، فنابذه للقتال فغلبه العابد وصرعه وقعد على صدره فعجز إبليس فقال: هل لك في أمر فصل بيني وبينك وهو خيرٌ لك وأنفع قال: وما هو؟ قال: أطلقني حتّى أقول لك فأطلقه فقال له إبليس: أنت رجلٌ فقير لا شي‏ء لك إنّما أنت كَلٌّ على الناس يعولونك ولعلّك تحب أن تتفضّل على إخوانك وتواصي جيرانك وتشبع وتستغني عن الناس؟ قال: نعم، قال: فارجع عن هذا الأمر ولك عليّ أن أجعل عند رأسك في كلّ ليلة دينارين إذا أصبحت أخذتهما فانفقتهما على نفسك وعيالك وتصدّقت على إخوانك فيكون ذلك أنفع لك وللمسلمين من قطع هذه الشجرة التي تغرس مكانها ولا يضرّهم قطعها شيئاً ولا ينفع إخوانك المؤمنين قطعك إيّاها، ففكرَ العابد فيما قال، وقال: صدق الشيخ لست بنبي فيلزمني قطع هذه الشجرة ولا امرني الله أن أقطعها فأكون عاصياّ بتركها وماذكره اكثر منفعة، فعاهده على الوفاء بذلك وحلف له، فرجع العابد إلى متعبّده فبات فلما أصبح رأى دينارين عند رأسه فأخذ هما وكذلك من الغد ثمّ أصبح اليوم الثالث وما بعده فلم يجد شيئاً فغضب وأخذ فأسه على عاتقه فاستقبله إبليس في صورة الشيخ فقال له: إلى أين؟ فقال: أقطع تلك الشجرة، فقال: كذبت والله ما أنت بقادر على ذلك ولا سبيل لك إليها، فتناوله العابد ليأخذه كما فعل أوّل مرّة فقال: هيهات فأخذه إبليس وصرعه فإذا هو كالعصفور بين يديه وقعد إبليس على صدره فقال: لتنتهينَّ عن هذا الأمر أو لأقتلنك فنظر العابد فاذا لا طاقة له به، فقال: يا هذا غلبتني فخلّ عنّي وأخبرني كيف غلبتك أوّلاً وغلبتني الآن، فقال: لانّك غضبت لله أوّل مرّة وكانت نيّتك الآخرة فسخّرني الله لك، وهذه الكرّة غضبت لنفسك وللدنيا فصرعتك.
 وهذه الحكاية تصديق لقوله تعالى: «إلاّ عِبَادك مِنْهُم المُخْلَصِين»َ ص:83, إذْ لا يتخلص العبد من الشيطان ويقوى عليه إلاّ بالإخلاص لله.[53]
 القصة الثانية: علي (ع) نموذج الإخلاص الكامل
 ورد عن عروة بن الزبير قال: « كُنّا جلوساً في مسجد رسول الله (ص) فتذاكرنا أعمال أهل بدر وبيعة الرضوان، فقال أبو الدرداء: يا قوم ألا أُخبركم بأقل القوم ما لاً وأكثرهم ورعاً وأشدّهم إجتهاداً في العبادة»؟ قالوا: مَنْ؟ قال: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) قال: (أي عروة بن الزبير) فوالله إن كان في جماعة أهل المجلس إلاّ معرض عنه بوجهه، ثمّ إنتدب له رجل من الأنصار فقال له: يا عويمر لقد تكلّمت بكلمة ما وافقك عليها أحد منذ أتيت بها، فقال أبو الدرداء: يا قوم إنّي قائلٌ ما رأيت وليقل كلّ قوم منكم ما رأو ا: شهدت عليّ بن أبي طالب بشويحطات النجار وقد إعتزل عن مواليه واختفى ممّن يليه واستتر بمغيلات النخل، فافتقدته، وبَعُدَ علَيّ مكانه، فقلت: لحَق بمنزله، فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجيّ وهو يقول: «إلهي كم من موبقةٍ حَلـُمتَ عن مقابلتها بنقمتك، وكم من جريرةٍ تكرّمت عن كشفهابكرمك، إلهي إن طال في عصيانك عمري، وعَظُمَ في الصحف ذنبي فما أنا بمؤمّل غير غفرانك ولا أنا براجٍ غير رضوانك».
 فشغلني الصوت واقتفيت فاذا هوَ علي بن ابي طالب (ع) بعينه فاستترتُ له، وأحملتُ الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغابر ثمّ فرغ إلى  الدعاء والبكاء والبثّ والشكوى، فكان ممّا به الله ناجاه أن قال: « إلهي أُفكر في عفوك فتهون علَيَّ خطيئتي، ثمّ أذكر العظيم من أخذك فتعظم علَيّ بليتي» ثمّ قال: «آه إن أنا قرأت في الصحف سيّئة أنا ناسيها وأنتَ مُحصيها فتقول: خذوه، فياله من مأخوذ لا تنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا أُذن فيه بالنداء» ثمّ قال: « آه من نارٍ تنضج الأكباد والكلى، آه من نارٍ نزّاعة للشوى، آه من غمرة من ملهبات لظى قال»: ثمّ أنعم في البكاء فلم أسمع له حسّاً ولا حركة، فقلت: غلب عليه النوم لطول السهر اوقظهُ لصلاة الفجر، قال ابو الدرداء: فأتيته فاذا هو كالخشبة الملقاة فحركته فلم يتحرك وزويته فلم ينزو، فقلت: إنّا لله وانّا اليه راجعون مات والله علي بن أبي طالب، قال: فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم، فقالت فاطمة عليها السلام: يا أبا الدرداء ما كان من شأنه وقصّته؟ فأخبرتها الخبر فقالت: هي والله يا أبا الدرداء الغشية التي تأخذه من خشية الله، ثمّ أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق فنظر إليّ وأنا أبكي، فقال: مِمّ بكاؤك يا أبا الدرداء؟ فقلتُ: مِمّا أراه تـُنزلهُ بنفسِك، فقال: يا أبا الدرداء فكيف ولو رأيتني ودُعيَ بي إلى الحساب، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب واحتوشتني ملائكةٌ غلاظ وزبانية فظاظ فوقفت بين يدي الملك الجبّار، قد أسلمني الأحبّاء، ورحمني أهل الدنيا لكنت أشدّ رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية، فقال ابو الدرداء: فو الله ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله (ص).[54]

 القصة الثالثة: علي (ع) و ضربة الخندق
 وهذه القصّة أيضاً تجسّد مثلاً رائعاً عن إخلاص سيّد العارفين وأمير المؤمنين علي (ع) وهي مايلي: لمّا أدرك عمروبن عبد ودٍ لم يضربه، فوقعوا في علي فردّ عنه حذيفة فقال النبي (ص): مه يا حذيفة فان علياً سيذكر سبب وقفته، ثمّ إنّه ضربه فلمّا جاء سأله النبي (ص) عن ذلك فقال: قد كان شتمَ أمّي، وتفل في وجهي فخشيت أن أضربه لحظّ نفسي فتركته حتى سكن ما بي، ثمّ قتلته في الله«.
 وهذا هو العامل المهم في فرض رجحان ضربة علي (ع) على أعمال أُمّة رسول الله (ص) جميعاً، فقد روي عن النبي (ص) أنّه قال لعليّ (ع) حينئذٍ: « ابشر يا علي فلو وزن اليوم عملك بعمل أمة محمّد لرجح عملك بعملهم«.
 وروي أيضا أنّه (ص): « لمبارزة علي بن ابي طالب (ع) لعمروبن عبدودٍ يوم الخندق أفضل من أعمال أُمّتي إلى يوم القيامة«.[55]

 القصة الرابعة: إخلاص التستري (رض(
 روي أنّ المرحوم المُلا عبدالله التستري (رض) دخل يوماً على الشيخ البهائي (رض) قبيل الظهر، فعندما حان وقت صلاة الظهر طلب منه الشيخ البهائي أن يتقدّم لإمامة الجماعة، فلمّا إستعدّ للصلاة شاهدوه يخرج فجأةً من البيت مودّعاً، فسأله بعض المؤمنين عن السبب!، قال: شعرت في نفسي بشي‏ء من العجب وقلت أنا ذومقامٍ عالٍ، تجدني يقتدي بي رجلٌ كالشيخ البهائي! فعلمت بانعدام نيّة الإخلاص لله عندي، فلم أُصلّي بكم جماعة إذن؟.

 القصة الخامسة: إخلاص المقدّس الأردبيلي (رض(
 نقل أنّ المُلا عبدالله التستري سأل من المرحوم المقدّس الاردبيلي (رض) في المجلس مسألة، فقال له المقدّس: سأُجيبك بعد ذلك وبعد إنتهاء المجلس أخذ بيد التستري وخرج به إلى الصحراء وشرح له جواب المسألة، فقال له المُلا عبدالله: لماذا لم تورد هذه المطالب في المجلس؟!
 فقال المقدّس: لو أنّنا تكلّمنا في المجلس بحضور الناس، فمن المحتمل أن ينبري لكل واحد منّا من ينتصر له من الحضور، وهذه النفس أمّارة بالسوء تستغل مثل هذا الظرف فلا تكون المباحثة خالية من شائبة الرياء، أمّا الآن وفي هذا المكان الخالي من الناس ليس معنا غير الله تعالى، فالرياء والشيطان والنفس الأمّارة ليس لهم أثر في المباحثة.

  5- من آثار الاخلاص:
 للأَخلاص آثارٌ عظيمة أشارت إِليها الروايات الواردة عمّنْ استخلصهم الله سبحانه وأذهب عنهم كلّ رجس وطهَّرهم تطهيرا:
 منها: أَنَّ روح الأعمال والطاعات وجوهرها والمناط في صحّتها وقبولها وحجمها عند الله سبحانه، وأنّ قيمة العمل عند الله بقدر ما يكون فيه الإخلاص.
 قال الأَمام الصادق (ع): «الإخلاص يجمع فواضل الأعمال، وهو معنى مفتاحه القبول، وتوفيقه الرضا فمن تـَقبّل الله منه فهو المخلص وإن قلّ عمله، ومن لا يتقبّل الله منه فليس بمخلص وإن كثر عمله إعتباراً بآدم (ع)...«.
 وقال الأَمام علي (ع): «لا تهتموا لقلّة العمل إهتموا للقبول فإنّ النبي (ص) قال لمعاذ بن جبل»: «أخلص العمل يجزيك منه القليل».
 وقال الصادق (ع) في تفسير قول الله عزوجل « لَيبْلوَكُمْ أَيُّكُم أَحسَنُ عَمَلاً» هود:7, الملك:2. « ليس يعني أكثركم عملاً ولكن أصوبكم عملا وإنّما الإصابة خشية الله والنيّة الصادقة». ثمّ قال بعد ذلك: « والنيّة أفضل من العمل ألا وأنّ النيّة هي العمل... ثمّ تلا قوله تعالى: « قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلِى شَاكِلَتِهِ » الاسراء:  84, « يعنى على نيته«.
 إلى غير ذلك من الروايات التي تقدّم بعضها فيما قدّمنا.
 و منها: أنّه لا خلاص من الشيطان ومكائده وحبائله التي ما انفكَّ ينصبها ليصطاد الإنسان ويوقعه في شباكه فريسةً ضعيفاً يأمر بالمعاصي والآثام يسلك به مسالك المهالك والآثام إلاّ الإخلاص فإنَّهُ السبيل الوحيد للقوّة والسيطرة عليه.
 قال الله تعالى: «لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخلَصِين»َ ص:   82 و , 83 وما تقدّم في القصّة الأُولى من القصص المتقدّمة شاهدٌ على ذلك.
 و منها: أنّه سبب للتوفيق والتسديد من الله تبارك وتعالى فإنَّهُ  يؤدي إلى استنارة البصائر ونيل الفضيلة والعلم والحكمة، وبلوغ الآمال وداعٍ إلى الصفات النبيلة الاُخرى لأنّ الذي يُخلص لله يسدّده الله بتسديده ويؤيّدهُ بتأييده، ويستجيب لدُعائه فقد ورد في النصوص أنّه «ما أخلص عبدٌ لله عزّوجلّ أربعين صباحاً إلاّ جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه» وفي رواية عن رسول الله (ص): « قال الله عزّوجل لا أطّلع على قلب عبدٍ فأعلم منه حبّ الإخلاص لطاعتي لوجهي وابتغاء مرضاتي إلاّ توليت تقويمه وسياسته ». وعن الأَمام الصادق (ع): «...اذا كان مخلصاً لله أخاف الله منه كلّ شي‏ء حتى هوام الأرض وسباعها وطير السماء».
وعن الأَمام عليّ (ع): غاية الإخلاص الخلاص ». وقال (ع) أيضاً: «المخلص حري بالاجابة » وقال (ع): «عند تحقق الإخلاص تستنير البصائر». وقال (ع): « في إخلاص النيّات نجاح الأُمور». وقال (ع): «إخلص تنل ». وقال (ع): « من أخلص بلغ الآمال ».
 وغير ذلك.

6- بواعث الاخلاص:
 بواعث الإخلاص والمحفـِّزات عليه كثيرة نلخّصها بما يلي:
 أ- الإلتفات إلى  فضائله - أي فضائل العمل- السالفة وعظيم آثاره في الدنيا والدين.
 ب - الرغبة فيما عند الله سبحانه من عظيم الأجر والثواب وما أعدّه الله للمخلصين من نعم في دار البقاء.
 قال الأَمام عليّ (ع): «من رغب فيما عندالله أخلص عمله«.
 إلى جانب ذلك اليأس عمّا في أيدي الناس ومعرفة أنّ ما في أيديهم زائل وما عند الله باقٍ وإِنّهم عاجزون عن إسعاد أنفسهم فضلاً عن غير هم، وأنّ المالك الحقيقي لكلّ ما في هذا الوجود والذي بيده زِمام الاُمور هو الله سبحانه، وهو على كلّ شي‏ء قديرٌ فإِنّ هذه المعاني تجعل من الحري بالعاقل أن يتـَّجه إلى الله ويخلص العمل له وحده.
 قال الأَمام عليٌ (ع): «أصل الإخلاص اليأس مِمّا في أيدي الناس«.
 ج - محاربة الهوى والزُهد في الدنيا وصحبة الأخيار والمحافظة على العبادات والدعاء وحضور مجالس الوعظ والإِرشاد وما إلى ذلك فإِنّها عوامل مساعدة على الإِخلاص وعكسها يؤدّي عدم الإخلاص فعلى العاقل أن يواظب على هذه المعاني لتساعده على العمل لوجه الله لا للدنيا أو  للهوى أو للناس.
 قال الأَمام علي (ع): « كيف يستطيع الإخلاص من يغلبه هواه«.
 د - الإلتفات إلى أنّ الرياء والخداع والنفاق سرعان ما ينكشف للناس ويكشف عن واقع الإنسان وينفضح المُرائي، ويكون عرضةً للمقت والإزدراء قال الشاعر:

ثوب الرياء يشَفُّ عما تحته                          فإذا اكتسيتَ به فإِنَّكَ عاري

فعلى الإنسان أن يتـَّسِمَ بصدق الإخلاص وجمال الطوية ليكون مثلاً رفيعاً للإستقامة والصلاح.
 فقد ورد في الآثار السالفة: إنَّ رجلاً من بني إسرائيل قال: لأعبدُ الله عبادة أُذكَر بها، فمكث مدّة مبالغاً في الطاعات وجعل لايمر بملأ من الناس إلاّ قالوا: متصنّع مراءٍ، فاقبل على نفسه وقال: قد أتعبت نفسك وضيّعت عمرك في لا شي‏ء فينبغي أن تعمل لله سبحانه، فأَخْلصَ عمله لله، فجعل لايمر بملأ من الناس إلاّ قالوا ورع تقيّ.

  7- مراتب الإخلاص:
  للإخلاص درجات ذكرها المعنيون نختصرها بدرجتين هما أقلُّ درجاته وأقواها:
 الأُولى: أن يكون هدف العامل هو الله سبحانه وامتثال أمره إلاّ أنّ الداعي الأخير إلى ذلك هو رجاء الحصول على الثواب في الآخرة والنجاة من العذاب والعقاب، وهذا النوع من العبادة يعبّر عنها بعبادة التجّار.
 الثانية: أن يكون الهدف محضاً لله سبحانه وتعالى من دون أي نظر إلى  هدف آخر لا دنيوي ولا أُخروي وإن كانت تلك الأهداف تحصل بلطف الله وكرمه، وصاحب هذا النوع من الإخلاص نسي ذاته وقطع من نفسه جذور حب الذات فانحصر ما في نفسه في حب الله تعالى فهو يعبد اللهَ للهِ لا لشي‏ء آخر مطلقاً·
ومن ذلك عبادة عليّ (ع) وهو القائل: "إلهي ماعبدتك خوفاّ من نارك ولا طمعاّ في جنّتك وإنّما وجدتك أهلاّ للعبادة فعبدتـُك". وهذه عبادة العارفين.
وبين هذه المراتب مراتب كثيرة فهناك من يعبد الله شكراّ وهناك من يعبده حياءّ وهناك من يعبده طمعاّ.


--------------------------------------------------------------------------------
[1] لسان العرب ج4 ص194 مادة "خلق" وأخلاق للسيّد عبد الله شبر ص25 وكتاب الأخلاق الإسلامية تأليف هبئة محمد الأمين/ ص8.
[2] أخلاق أهل البيت (ع) ص5 للسيَّد مهدي الصدر.
[3] جامع السعادات 2/29 بتصرّف.
[4] هذا كلّه أخذته من مقدّمة كتاب فلسفة الأخلاق للشهيد مطهري اقتطافاً مع بعض التصرّف.
[5] مكارم الأخلاق ص33.
[6] انظر: أخلاق أهل البيت (ع) ص12.
[7] أخلاق أهل البيت (ع) ص13.
[8] جامع السعادات 227:2 والأخلاق والآداب الإسلامية ص303.
[9] أخلاق أهل البيت (ع) للسيّد مهدي الصدر ص177.
[10] جامع السعادات والأخلاق والاداب الإسلامية تقدماّ
[11] جامع السعادات والأخلاق والاداب الإسلامية تقدماّ
[12] الانبياء: 47.
[13] المجادلة:6.
[14] الكهف: 49.
[15] الزلزلة: 6-8.
[16] آل عمران: ..30
[17] البقرة: 281 وآل عمران: 161
[18] الحجر: 92-93.
[19] لقمان: 16.
[20] جامع السعادات 228:2س4.
[21] جامع السعادات 2: 228 , والأخلاق والآداب الإسلاية ص304 عن البحار 77.
[22] أخلاق أهل البيت (ع) ص178 عن الوافي 3: 62- عن الكافي.
[23] تزكية النفس للحائري ص275- عن الوسائل 16/ 95ب 96 من جهاد النفس ج7.
[24] الحائري – تزكية النفس ص275.
[25] الحائري تزكية النفس ص281 عن البحار77: 74.
[26] جامع السعادات ج2ص232 س2. وانظر لهذا والذي قبله: المحجّة البيضاء 8: 155.
[27] جامع السعادات 2: 232س3.
[28] الأخلاق والآداب الإسلامية 307 عن البحار 5.
[29] تزكية النفس للحائري ص282 عن البحار 12: 266 وانظر المحجّة البيضاء 8/156.
[30] تزكية النفس للحائري ص282 عن البحار 12: 266 وانظر المحجّة البيضاء 8/156.
[31] انظر: أخلاق أهل البيت (ع) ص176- 180.
[32] مرآة الرشاد ص40.
[33] انظر لهذه المقامات – جامع السعادات 2/ 230 وما بعدها وتزكية النفس للحائري ص279 وما بعدها والمحجّة البيضاء 8/151 ومابعدها.
[34] جامع السعادات 2/232 –233 وأخلاق شبر ص323- 324.
[35] جامع السعادات 2: 154- والأخلاق والآداب الإسلامية ص209.
[36] أخلاق أهل البيت (ع) ص85.
[37] المصدرين المتقدمين في هامش 1ص27 (الصفحة السابقة).
[38] جامع السعادات 2: 154- 155, والمحدّة  8/ 128- 129.
[39] اخلاق أهل البيت (ع) ص85- 86 بتصرّف كثير منّا.
[40] والحديث في البحار 70/ 249 وجامع السعادات 2: 156 والمحجّة البيضاء 8/ 125.
[41] البحار 70/ 249, وتزكية النفس للحائري 7ص 403 وقريب من ذلك في المحجة 8/ 126 عن الترمذي.
[42] أخلاق أهل البيت (ع) ص85 عن البحار 15/ 87 عن عدة الداعي لابن فهد
[43] أخلاق أهل البيت (ع) ص86 عن البحار 15/ 87 عن عدّة الداعي.
[44] المحجّة 8/126 عن بعض المصادر السنيّة.
[45] تزكية النفس للحائري ص398 عن تفسير نمونه.
[46] تزكية النفس تقدم, عن البحار.
[47] تزكية النفس تقدم, عن البحار.
[48] انظر تزكية النفس للحائري ص403- 404, عن البحار.
[49] أخلاق شبر ص35, والروايات موجودة في البحار 70.
[50] أخلاق شبر ص35, والروايات موجودة في البحار 70.
[51] أخلاق شبر ص35, والروايات موجودة في البحار ج70.
[52] هذه النصوص نقلوها في كتاب الأخلاق والآداب الإسلامية ص209- 210, عن البحار وعن غرر الحكم وعن شرح نهج البلاغة وعن البحار وعن كنز العماّل فلاحظ.
[53] المحجّة 8/126.
[54] تزكية النفس للحائري ص396- 397 عن البحار 41: 11- 12.
[55] تزكية النفس للحائري ص398- 399, عن البحار 41: 50- 51 والروايتين عن البحار أيضاّ.


1 التعليقات:

مدونة قمر بني هاشم يقول...

احسنت اخي بارك الله بك

موضوع جميل ومفيد جدا

جزاك الله خير الدنيا والاخرة

الـسابــق الــتــالي Home

© 2010 جميع الحقوق محفوظة صدى الشيعة